التنجيم و الطبخ الرقمي
مع قُدرة الذكاء الاصطناعي المتزايدة على أتمتة المهام المعرفية والروتينية، تبرز مخاوف عميقة بشأن مستقبل سوق العمل وتأثيراته على مختلف أنواع المهن والوظائف. وتتشكَّل قائمة محتملة لبعض المهن التي قد تكون الأكثر تعرضاً للمنافسة من قِبَل الذكاء الاصطناعي، فيما تغيب مهن أخرى عن هذه القائمة (التقليدية) مع أهميتها الغِذائية المادية والرُّوحية لفئات كثيرة من المجتمع العربي.
نُسلِّط الضوء في هذه المقالة على التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي وأدواته على مهنتي العرافة والتنجيم والطبخ، مع افتراض شخصيتين تُمثل كل منهما إحدى المهنتين: (الشيخة لَبيبة الرقمية) و (الشيف عَمْليق)
خطر الذكاء الاصطناعي على العرافين والمنجمين
مع كل رأس سنة ميلادية، تزدحم أبواب القنوات الفضائية وبرامجها بأباطرة التنجيم وعلم الفلك التنبُّؤي، ورثة نوستراداموس وعمياء بلغاريا (فانغا)؛ ليسردوا علينا ما استنبطوه من النجوم والبروج من أحداث مستقبلية، سياسية واقتصادية ومناخية وغيرها. منها ما يُثلج الصدر ويُبشر بالخير، ومنها ما يُنبئ بشر يقترب. وبالطبع هذه البرامج ما هي إلا إعلانات مدفوعة لتوسعة أسواق هؤلاء بين سادة القوم من حُكام ومُتنفذين ورأسماليين، يُرسل أحدهم طائرته الخاصة لإحضار هذا العرّاف ثم يُغدِق عليه مئات الآلاف أو حتى ملايين الدولارات، ليطمئن منه أن حركة النجوم تُنبئه بحُكم طويل الأمد وكرسي لا يتزعزع، أو صفقات وثروات فوق ثروات تبشِّر بها خريطة اصطفاف الكواكب.
أما أنت أيها الفقير الذي لا يملك إمكانية التواصل مع هؤلاء لمعرفة طالعه (المنحوس)، فليس أمامك إلا ضاربة رمل أو قارئة فنجان، لديها كتالوج لقراءات مسبقة بحسب قيمة (الإكرامية)؛ فإن كانت سخية فإن كل الطرق والأوتوسترادات والجسور والمعابر داخل فنجان قهوتك توصل إلى ما لذَّ وطاب على صفحات كتالوج الأماني والأحلام، بحسب طلبك وبما يُرضي طموحاتك (ثراء، حب وزواج، تفوق دراسي...). وإن كانت الإكرامية بسيطة لا تُلبي تطلعات العرَّافة، فإنها لن تتورَّع عن مُضاعفة همومك وأحزانك ورفع مؤشرات اليأس في نفسك، فتقول لك
بصرت ونجمت كثيراً،
لكني لم أقرأ أبداً فنجاناً يشبه فنجانك.
بصرت ونجمت كثيراً
لكني لم أعرف أبداً أحزاناً تشبه أحزانك
أمام هذا الواقع، وفي ظل قدرات الذكاء الاصطناعي على التنبؤ وابتكار الحلول لمختلف أنواع المشكلات، فقد نشهد عرافين رقميين مُحايدين لا يُفرقون بين غني وفقير ولا قوي وضعيف، مثل (الشيخة لَبيبة الرقمية).
وهي عرافة افتراضية تبني توقعاتها على الأرقام والمعادلات الرياضية، مدعومة من أنواع متعددة من الذكاء الاصطناعي (التحليلي، التنبؤي، التوليدي..)، لا علاقة لها بالنجوم والفلك ولا روابط بينها وبين الجن. وباعتبارها رقمية، فإنها تُسخِّر في توقعاتها ومعادلاتها عفاريت من جنسها مثل ChatGPT و Gemini، وهم ليسوا ممن يسترقون السمع أو يتعلمون من كتاب شمس المعارف، إنما يستخدمون طلاسم وتعاويذ ابتكرها سحرة (Google و Open AI) وأطلقوا عليها اسم الخوارزميات، مع استعانة بآلة حاسبة خارجية أُدمِجت في أنظمة عملهم، أو أنماط من التفاؤل والتشاؤم تعرَّفوا عليها في عمليات التدريب، أو عبر غزوات معرفية قائمة على البحث اللحظي ومحركات البحث. كل هذه أدوات وإمكانات تُمكِّن الشيخة لبيبة الرقمية من زَعْزَعَة سوق العمل (التنجيمي) وتغيير وجه البرامج التلفزيونية في رأس السنة الميلادية. وهذا يُنذر بمشكلة لا حل لها عند العرافين والمنجمين إلا بالاجتهاد في مُراقبة النجوم وتوسيع دائرة العلاقات بين أوساط الجن والعفاريت، وعدم الاتكال فقط على أجهزة المخابرات والقنوات الإعلامية والمسؤولين الرسميين في استقاء المعلومة المستقبلية، وإلا فإن الشيخة لبيبة الرقمية هي البديل أو على الأقل المُنافِس الأقوى في هذه المهن
الشيف عمليق وآفاق اتساع المعدة العربية
ظاهرة الشيف من الظواهر التي برزت بصورة لافتة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية العربية، وأصبح كثير من حملة هذا اللقب يُنافسون نجوم السياسة والفن والرياضة في الشهرة والانتشار. بعض وسائل الإعلام (الدعائية) التي تقوم على مبدأ (عَبِّي التَّم تستحي العين) قد لا تجد حرجاً من استضافة شيف (يُعبّي التم) (فتستحي العين) ويتم تقديمه على أنه ملك (الطناجر) أو إمبراطور (المَحاشي) أو صانع مستقبل (المشاوي)، مع مُقدِّمة ترحيبية تُعدد إنجازاته في بناء الجهاز الهضمي العربي، وتُشيد بإسهاماته في رسم مستقبل المائدة العربية.
أما ما يقدمه هؤلاء الطهاة (الملوك) من وصفات فهي غالباً ما تكون مُصمَّمة على مقاسات أمعاء عِلْيَة القوم وسادتهم. الغني يُجربها رغبة في توسعة قائمة وجباته وإشباع رغباته، فإن وجد فيها لذَّة ضمَّها إلى هذه القائمة، وإن لم تُناسب ذوقه فهي تجربة لا تُقدِّم تكلفتها ولا تُؤخِّر (يا جبل ما يهُزَّك ريح). أما الفقير فهو يُشاهد مثل هذه البرامج ويحفظ المكونات وطرق التحضير من مبدأ (خُذ فكرة واشتري بُكرة) على أمل أن بُكرة قد يحمل مفاجآت تُمكِّنه من تذوق طعم الفكرة.
ولأهمية هذا الموضوع وعلى مبدأ (ما حدا أحسن من حدا)، فقد يُطلُّ علينا صُنَّاع التقنية المدعومة بالذكاء الاصطناعي بنموذج يحمل لقباً يتجاوز بحجمه كل ألقاب الطهاة التقليديين تحت صفات وقدرات كبرى مثل عملاق الطبخ المتعدد الجنسيات، ورائد صناعة الوجبات السريعة والبطيئة هائلة الحجم (الشيف عَمْليق).
وباعتباره (عَمْليق)، فإن ما يصنعه ويقدمه من وجبات تعتمد كنوع من المنافسة على الحجم لا النكهة، هي بالنسبة لحجمه وجبات تقليدية يومية، لكنها بالنسبة إلينا تُشكل مشاريع عملاقة، تكاليفها (ريح تهز أعتى الجبال)، تحتاج قَضْمة منها إلى تمويل من البنك الدولي، أو تحالف مالي بين إيلون ماسك وبيل غيتس والوليد بن طلال، مثل سندويشة بحجم برج إيفل أو طبق محشي كوسا بحجم هَرَم خوفو. مُكوناتها أرقام ذات أصفار وأصفار تُشكل مُعادلات رياضية وأرقاماً هائلة لا يُجيد حسابها إلا الذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي يهدِّد النمطية... لا المهنة
في المُحصِّلة، قد تبدو مهنة التنجيم ومهنة الطبخ على طرفي نقيض، لكن ما كشفته لنا مُنافسة "الشيخة لَبيبة الرقمية" و "الشيف عَمْليق" هو أن الذكاء الاصطناعي لا يُميِّز بين مَن يقرأ النجوم ومَن يقرأ الوصفات. كلاهما يقع فريسة للعامل المشترك: النمطية (Pattern).
لَبيبة تكتسح العرَّافين لأنهم يُكرِّرون آمال وأحزان البشر بأسلوب نمطي قائم على الابتزاز. وعَمْليق يتفوَّق على الطهاة لأنهم يُكرِّرون الوصفات والقياسات بدقة قابلة للأتمتة. الذكاء الاصطناعي يُهدِّد النمطية و التكرار، لا المهنة بحد ذاتها.
وهذه المقالة على ما جاء فيها من مبالغات، هي نظرة من نافذة غير تقليدية إلى تخوُّفات مشروعة من تهديد الذكاء الاصطناعي لسوق العمل، حيث إننا أمام مستقبل رقمي مَحْتُوم تُشكِّل الرقمية فيه شريكاً للإنسانية؛ ليس في حياتنا العامة وأعمالنا ووظائفنا، بل ربما أيضاً في أحلامنا وأمعائنا.
مُواجهة هذا التهديد لا تكمُن في مُقاطعة التقنية، بل في الإصرار على الإبداع الإنساني الأصيل. هذا الجزء من اللمسة البشرية الذي لا يمكن تقليده أو نَمْذَجَتُه، سواء كان في (الذائقة الفنية) التي تجعل الطبخة عملاً فريداً وغير مُتوقع، أو في (العمق الفلسفي) الذي يرفض أن تُختزل أحلام الإنسان في مُعادلات رقمية. هذا هو الفارق بين الإنسان والآلة في سوق العمل المستقبلي.


تعليقات
إرسال تعليق