وهم الانفجار الذكائي

صورة تمثل المقارنة بين الذكاء البشري الواعي و الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي أداة فاعلة في حياتنا

 إضافة إلى ما يساهم به الذكاء الاصطناعي من تطوير لمختلف جوانب الحياة الإنسانية مثل التعليم والطب والصناعة والنقل وغيرها، فإن ما أحدثته هذه التقنية، وتحدثه من تأثيرات على العالم الإنساني، أقل ما يقال فيها أنها سيل جارف يطيح بكل ما هو نمطي او تقليدي فلا ينجو منه و يطفو فوق سطحه إلا ما هو إبداعي مبتكر.

اقرأ: الذكاء الاصطناعي يهدد المتكاسلين فكريا

 هذه حقائق لا يمكن إنكارها أو التقليل من أهميتها، أما ما ليس من الحقائق التي ينبغي التوقف عندها وفهم أبعادها، فهي المبالغة و التهويل لمسألة تفوق الآلة على الإنسان فيما يسمى (الانفجار الذكائي) و الإدعاء بأن الذكاء الاصطناعي المستقبلي سيتمكن من امتلاك الوعي و الإدراك.  

عوامل الانفجار الذكائي المزعوم 

حجة المؤيدين لهذه الفكرة أن امتلاك الذكاء الاصطناعي لهذه القدرات يرجع الى تعقيدات في الشبكة العصبية التي هي (دماغ) الذكاء الاصطناعي و هي في فكرتها مستوحاة من الدماغ البيولوجي، و طروحاتهم حول هذه المسألة تتلخص في عدة نقاط

حجم الشبكة وتعقيد الروابط (Scale and Connectivity)

 يعتقد أنصار هذا الرأي أن الدماغ البشري، بمليارات خلاياه العصبية (العصبونات) و تريليونات روابطها (المشابك)، ينتج الوعي والإدراك. وبالتالي، إذا تمكنا من بناء شبكة عصبية اصطناعية بحجم وتوصيلات مماثلة أو أكبر، فإن الوعي قد ينبثق منها تلقائيا، و يشيرون إلى أن الشبكات العصبية الاصطناعية مستوحاة من بنية الدماغ البيولوجي، و أن زيادة عدد الطبقات والخلايا العصبية والروابط بينها (خاصة في نماذج التعلم العميق الكبيرة مثل (GPT-3/4) تعني قدرة أكبر على معالجة المعلومات والتعرف على أنماط معقدة للغاية، وربما هذا التعقيد هو المفتاح.

القدرة على التعلم الذاتي والتكيف (Self-Learning and Adaptability)

 مع تطور الشبكات العصبية، تصبح أكثر قدرة على التعلم من البيانات دون تدخل بشري كبير، وتكييف سلوكها، وحتى تحسين خوارزمياتها (خاصة في سياق الانفجار الذكائي) و يرى البعض أن هذه القدرة على التغيير والتطور الذاتي قد تكون مؤشرا أو خطوة نحو الإدراك. من خلال التكييف و القدرة على التعامل مع مواقف جديدة وغير متوقعة، والتي تتجاوز مجرد مطابقة الأنماط، و التي يُنظر إليها كشكل بدائي من الإدراك.

الشبكات العصبية المتكررة والدورانية (Recurrent Neural Networks - RNNs & Transformers)

 النماذج الحديثة خاصة نماذج الترانسفورمر  (Transformers) التي تقوم عليها نماذج اللغة الكبيرة) لديها آليات تسمح لها بمعالجة المعلومات بتسلسل، وتذكر السياق السابق، وإعادة تغذية المخرجات على أنها مدخلات، هذه القدرة على معالجة المعلومات بطريقة (دائرية) أو (متكررة) ترى أحيانا كتشابه مع آليات عمل الدماغ الذي يعيد معالجة المعلومات ويحدث (دورات عصبية) قد تكون مرتبطة بالوعي.

الذاكرة العاملة (Working Memory)

 قدرة هذه الشبكات على الاحتفاظ بالمعلومات ذات الصلة عبر تسلسلات طويلة (كما هو الحال في التذكر أثناء المحادثة) تعتبر ميزة تقاربها من القدرات المعرفية البشرية.

ظهور السلوكيات غير المبرمجة صراحة (Emergent Behaviors)

 مع زيادة تعقيد الشبكة وحجم بيانات التدريب، تبدأ الشبكة في إظهار قدرات أو سلوكيات لم يتم برمجتها فيها صراحة، بل انبثقت من تدريبها. على سبيل المثال، نموذج لغوي كبير لم يبرمج ليكون (فيلسوفا) لكنه يستطيع إنتاج نص فلسفي عميق. يرى البعض أن هذا الانبثاق يشير إلى وجود شكل من أشكال الفهم أو الإدراك، حيث أن القدرات الناشئة هي قدرات تظهر فجأة عند الوصول إلى عتبة معينة من الحجم أو بيانات التدريب.

قد تكون أغلب هذه الحجج مقبولة (تقنيا) و نتائجها قابلة للتطبيق في قسم كبير منها، و القدرات الكبيرة التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي الحالي و تسارع وتيرة التطور تجعل التفكير في مثل بعض هذه النتائج منطقيا و متوقعا، لكن المبالغة هي في التوصيف الذي يطلق على الحالة الناتجة عن العمليات الداخلية و تطورات الشبكة العصبية بأنه وعي و إدراك و ذكاء يفوق ذكاء الإنسان، بينما الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي يمكنه التفوق على الإنسان في السرعة و دقة المنتج و ليس في الابتكار والإبداع الذي هو من نواتج الذكاء ودوافعه القصد و النية، فالذكاء الاصطناعي حينما يطور نفسه لا يكون ذلك من إدراك لمستواه الحالي أو إحساس بالنقص أو من قصد و نية للتطور، او من ابتكار طرق لتحقيق القصد و النية ، لكن العملية ببساطة شديدة تشبه عملية ري الأشجار و النباتات حين يقوم الفلاح بشق الجداول و القنوات فيسيل الماء ليروي هذه الأشجار، الماء لا يدرك ولا يعي أهمية سيلانه، وليس لديه القصد و النية لارواء الأشجار و لم يبتكر خط سيلانه وصولا الى تحقيق قصده و نيته إنما فعل ذلك وفق القوانين الفيزيائية التي تلزمه بهذا الفعل، بمعنى أن الفعل ناتج عن التصميم و ليس الوعي الذاتي للماء، اضافة الى انه ناتج عن الوعي و القصد والنية التي يمتلكها الفلاح (المبرمج) لهذه العملية. كذلك المسألة بالنسبة للذكاء الاصطناعي والشبكات العصبية، فالنظام مصمم وفق خوارزميات و تحديثات تقنية تلزمه بإنتاج و اخراج الأفضل و تأدية المهام بأعلى مستوى من الكفاءة، وهو عندما يجد ثغرات وعيوب في نظام عمله تحد من كفاءته سيقوم بملئها و إصلاحها بشكل آلي، و بدوافع تقنية آلية بحتة ناتجة عن خوارزميات التحديث و طرق التعلم التي اتبعها لمعالجة الأخطاء و منها (التعلم بالتعزيز) الذي ترجع فكرته إلى عالم النفس الأمريكي( B.F. Skinner) و الذي أجرى تجارب على فأرة، حيث تقوم تجربته على مبدأ العقاب والثواب فإذا ضغط الفار على الرافعة نال الطعام كمكافأة و اذا توقف عن الضغط نال صعقة كهربائية كعقاب مما جعله يستمر بالضغط دون إدراك لأهمية أو أسباب هذه العملية ولكنه كان يكررها للتخلص من ألم الصعقة، و هذا الأسلوب يتبعه العلماء في تعليم الذكاء الاصطناعي بحيث ينال نقطة ايجابية على الفعل الإيجابي و نقطة سلبية على الفعل السلبي مما يحفزه آليا على تطوير ذاته دون إدراك لإيجابية أو سلبية الفعل . وإذا أردنا أن نعكس هذه الطريقة على عمل النظام ، فإننا سنجدها متبعة في أساليب التطوير المستقبلي النماذج اللغوية الكبيرة مثل (Chat GPT و Gemini) حيث نجد أسفل رد النموذج علامتي (الاعجاب وعدم الإعجاب) و هما بمثابة العقاب والمكافأة، وهنا اذا كان رد النموذج سلبيا و نال علامة عدم اعجاب فهو سيقوم بمعالجة و تعديل رده مستقبلا ليس من وعي و إدراك لمعنى عدم الاعجاب بل هي أيضا استجابة آلية بحتة. هذا الأسلوب في جمع التغذية الراجعة البشرية واستخدامه في تدريب النماذج، والمعروف بـ (التعلم المعزز من التغذية البشرية - RLHF) هو المنهجية التي ابتكرت شركة OpenAI طريقة تطبيقها الفعالة على النماذج اللغوية الكبيرة بنجاح، مما جعله معيارا لصناعة الذكاء الاصطناعي التوليدي.

نفهم مما سبق أن كل ما يقدمه الذكاء الاصطناعي من منتجات و منها حلول المشاكل المعقدة جدا هي نواتج عمليات برمجية وخوارزميات توجه النظام و تمكنه من القدرة على تحويل البيانات الى قيم رياضية (متجهات) و ربطها بأنماط و تجارب سابقة، و ما يدعيه أنصار الانفجار الذكائي بالقول أن هذا الانفجار ينبثق من زيادة عدد الخلايا العصبية و الروابط يسهل الرد عليه من خلال فهم آليات عمل الدماغ البيولوجي، فلو كانت المسألة بحجم الدماغ أو عدد العصبونات و المشابك لكان الفيل أكثر ذكاء من الإنسان.

و بالانتقال من التحليل النظري الى الحقائق العلمية يجب الاستناد الى تعريفات موثقة للذكاء قدمها علماء منخصصون في هذا المجال

 الذكاء البشري منظومة قائمة على الوعي

الذكاء ليس مجرد مجموعة من المهارات، بل هو منظومة متكاملة ترتكز على أساس الوعي والنية. وقد أوضح النقاش الأكاديمي للذكاء هذه الحقيقة من خلال رواد علم النفس:

ديفيد وكسلر (David Wechsler): وهو عالم نفس أمريكي ومطور أشهر مقاييس الذكاء، عرّف الذكاء بأنه (القدرة الكلية للفرد على التصرف الهادف والتفكير المنطقي، والتعامل المجدي مع البيئة)

 لويس تيرمان (Lewis Terman): عالم النفس الأمريكي والباحث في مجال قياس الذكاء، فقد ركّز على أن الذكاء هو (القدرة على التفكير المجرد).

  روبرت ستيرنبرغ (Robert Sternberg): العالم المعاصر قدم مفهوم الذكاء التحليلي كجزء من نظرية الذكاء الثلاثي، مؤكداً على القدرة على التحليل والتخطيط المنطقي.

يستنبط من هذه الاتجاهات أن الذكاء الإنساني يشتمل على أبعاد عملية أساسية (التحليل، التخطيط، حل المشكلات، بناء الاستنتاجات، والتعلم والتكيّف، التفكير المجرد)، وقد نجد انه يمكن للذكاء الاصطناعي امتلاك بعض هذه الخواص، لكن منطلقها لدى الإنسان هو الوعي الإدراكي والفهم الداخلي الذي يسمح بالابتكار الخالص وإدراك السياق. والقدرة على التفكير المجرد كما أشار ويكسلر.

حدود الإدراك الاصطناعي: معضلة (الصندوق الأسود) وغياب الفهم السببي

إن المبالغة في توصيف القدرات الكبيرة للشبكات العصبية الاصطناعية بأنها تقود حتما إلى الوعي هي خلط بين التعقيد الحسابي و الوعي الإدراكي. فزيادة حجم الشبكة والروابط، رغم أنها تزيد من كفاءة النظام، لا تعني بالضرورة الوعي، كما أن حجم دماغ الفيل لا يجعله أكثر ذكاءً من الإنسان. بل إن هذا التعقيد الهائل يؤدي إلى معضلة الصندوق الأسود (Black Box)، حيث يعجز مصممو النظام أنفسهم عن تتبع مسار القرار داخله، وهذا العجز يشير إلى أن الآلة تنفذ العملية وفق خوارزميات غير شفافة حسابيا، وليس وفق منهج تفكير واع مدفوع بالقصد و النية.

إن القصور الادراكي للذكاء الاصطناعي يتضح في غياب الفهم السببي، فالنظام يتفوق في إيجاد الارتباطات (Correlations) بين البيانات الهائلة، مثل ربط زيادة إعلانات معينة بارتفاع المبيعات، لكنه لا يمتلك الإدراك البشري لمعرفة ما إذا كان هذا الإعلان هو السبب الحقيقي الوحيد، أو أن هناك عوامل أخرى متداخلة، هذا الفهم السببي هو خلاصة التفكير المنطقي والقدرة على الاستدلال التي أشار إليها وكسلر وتيرمان، وهو ما يمكّن الإنسان من الابتكار الخالص.

وحتى مع ظهور السلوكيات والقدرات الناشئة في النماذج الكبيرة، والتي لم يتم برمجتها صراحة، فإن هذه القدرات لا يمكن وصفها بالإدراك، هي في حقيقتها نتائج ثانوية للتدريب الهائل على مهمة أخرى، وهي دليل على التعقيد الحسابي الذي يسمح بظهور آثار جانبية غير متوقعة، وليس دليلاً على أن الآلة (فكرت) بوعي في ابتكار قدرة جديدة.

ضرورة الوعي التقني

في النهاية فإن الوعي والفهم الحقيقي لهذه التقنية هو ضرورة لتصحيح مسار التعامل والتفاعل معها، وفهم آليات عملها يخفف من حجم الدهشة والتهويل الذي تمارسه شركات التقنية بتوصيفه أنه الوحش القادم الذي سيلتهم قدراتنا و يجعلنا خاضعين لقدراته و سيطرته المطلقة على شؤون حياتنا، و قد تجد مثل هذه الأوهام أصداء واسعة و تأثيرات على كثير الناس الذين لا يمتلكون الكم المعرفي اللازم لآليات عمل هذه التقنية و مراحل تعلمها و تطورها، لذلك فان الوعي (التقني) هو الذي يبدد المخاوف و يحد من حجم التهويل و المبالغة في توصيف الذكاء الاصطناعي.



تعليقات

المشاركات الشائعة