الذكاء الاصطناعي يهدد المتكاسلين فكريا
يصُوّر صعود الذكاء الاصطناعي وتنامي قدراته على أتمتة المهام، والتنبؤ، والاستنتاج، والحلول، على أنه خطر محدق يتهدد الوظائف وسوق العمل، وكأن الأتمتة سيف يتربص بالمهن ليقضي عليها دون تمييز. لكن هذه الرؤية ليست قابلة للتعميم. فالخطر ليس مطلقاً يهدد الإنسان، بل هو خطر مشروط بتوافر عوامل مثل (التكاسل الفكري وانتهاج منهج النمطية في العمل). ومواجهة هذا التهديد لا تعني مقاطعة التقنية، بل في تبني تكتيكات قائمة على استراتيجية تجنب النمطية، والاستفادة الكاملة من الروتين وفهم كامل لمخاطر النمطية والتكرار كبيئة ملائمة لتعاظم قدرات الآلة مقابل تضاؤل وانحسار القدرة البشرية. فالنمطية هي لعبة الذكاء الاصطناعي وإحدى أهم أدوات تعلمه (البحث عن الأنماط) التي تعلمها وأجاد استثمارها ببراعة.
النمطية قيد للإبداع: الفصل بين الشكل والرؤية
للخروج من دائرة القلق، يجب أن نحدد أولاً وبدقة الفرق بين الروتين والنمطية، لأن الخلط بينهما هو أصل سوء الفهم. الروتين هو التكرار الميكانيكي أو الإجرائي اللازم لأي عمل، بما يمثل الشكل والقالب المعد مسبقاً (Template). إنه الهيكل التنظيمي الذي يضمن الكفاءة والسرعة. أما النمطية فهي التكرار الفكري والمعرفي، بما يمثل الخوارزمية الفكرية الجامدة التي تحكم المحتوى، والتي يمكن للآلة تعلمها والتنبؤ بها بسهولة، فعندما نُفكر في عمل فكري مثل تأليف كتاب، يتضح الفرق بجلاء. فالالتزام بهيكلة الكتاب، وتنسيق الأبواب والفصول، وترتيب المراجع والمصادر، وكل ما يتعلق بالتنظيم والشكل، يُعد روتيناً ضرورياً. وهنا يصبح الذكاء الاصطناعي أداة تحرير فائقة القوة، يمكن للكاتب أن يشتري بها وقته الثمين، وأن يفوّض الآلة مهمة التدقيق اللغوي، والتلخيص الأولي، وإعداد الفهارس. لكن الخطر القاتل يكمن في المحتوى الذي يقوم على تكرار الأفكار والرؤى التي طُرحت سابقاً، وفي صياغة استنتاجات يمكن التنبؤ بها بسهولة بناءً على ما هو سائد أو مُجَرَّب. هذا التكرار الفكري هو ما يشكل "قيد النمطية" الذي يخنق الإبداع الأصيل. فمن يصر على التفكير ضمن الأنماط الآمنة والمُجرّبة، يضع نفسه مباشرة في مرمى الآلة القادرة على محاكاة هذا النمط وتفويضه.
نجاة المبدع وسقوط المتكاسل فكرياً
تشير التجارب التفاعلية بين الإنسان والآلة في مختلف مجالات العمل إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يستهدف مهناً دون أخرى بحسب مسمياتها أو درجة أهميتها، بل يستهدف الثغرة المشتركة بينها وهو النمطية الفكرية والمعرفية ليتسلل من خلالها. فالخطر لا يهدد فقط مهنة إدخال البيانات، بل يتجاوزها إلى مهن عالية القيمة وحساسة مثل التشخيص الطبي والاستشارات المالية.
في مجال الطب، لا يكمن الخطر في روتين مراجعة المستندات أو الصور الطبية وتحليلها الأولي، بل في النموذج الفكري الذي يكرره الطبيب للوصول إلى التشخيص بناءً على أنماط الأعراض والتحاليل المتكررة. في اللحظة التي يتبع فيها الطبيب نموذجاً منطقياً قابلاً للتنميط لآلاف الحالات المماثلة، يمكن للآلة أن تتفوق عليه في السرعة والدقة. وبالمثل، في الاستشارات المالية، يزول دور المستشار الذي يكتفي بتقليد المنطق الذي يتبعه لتوصية عميله بالاستثمار بناءً على نماذج وتجارب السوق التاريخية المتكررة.
اقرأ أيضا: التنجيم و الطبخ الرقمي
إن الطريق إلى النجاة يكمن في تبني اليقظة الفكرية عبر استراتيجية مزدوجة تضمن نجاة المبدع وسقوط المتكاسل فكرياً
الذكاء الاصطناعي هنا لا يستهدف الإنسان العامل، بل يستهدف الإنسان المتكاسل فكرياً الذي يكتفي بـ "النموذج الجاهز" ويسمح بـ "أتمتة عقله". والخطر يزول تماماً عن الشخص الذي يصر على الابتكار اللا نمطي، أي الذي يولد الأفكار التي لا يمكن نمذجتها لأنها لم تُرَ أو تُجرَّب من قبل، لأنه يضيف رؤية معرفية جديدة لا تستطيع الآلة استنتاجها من قاعدة بياناتها التاريخية.
اليقظة الفكرية: الاستراتيجية المزدوجة للنجاة
إن الطريق إلى النجاة يكمن في تبني اليقظة الفكرية عبر استراتيجية مزدوجة تضمن نجاة المبدع وسقوط المتكاسل فكرياً:
تفويض الروتين للآلة: يجب أن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كمُحرر من القيود، وليس كتهديد شامل. يجب تسليم كل المهام الإجرائية والتكرارية، كالتنظيم والتلخيص والتدقيق الأولي ومعالجة البيانات الضخمة، للآلة. هذا يضمن توفير الوقت اللازم للارتقاء بمهامنا.
الإصرار على كسر النمطية: يجب تكريس الوقت المُحرر حصراً للابتكار اللا نمطي والرؤى الجديدة. هذا يتطلب تعظيم المهارات البشرية المتميزة، كالذكاء العاطفي، وفن القيادة والتوجيه، والتفاوض المعقد، بالإضافة إلى الالتزام بالتفكير الاستراتيجي وتقديم حلول غير تقليدية تكسر الأنماط المنطقية المتوقعة. يجب على الإنسان أن يتحول من مُنفّذ للأنماط إلى مُبدِع للأطر.
الذكاء الاصطناعي إذن ليس سيفاً مسلطاً على رقاب الوظائف، بل هو مرآة تعكس حالتنا الفكرية. إنه يفرض على البشر أن يتوقفوا عن فعل ما تجيده الآلة (النمطية والروتين) وأن يتفرغوا بالكامل لما لا تستطيع القيام به: الإبداع الأصيل والرؤية الجديدة. إن خطر الذكاء الاصطناعي لا يتهدد المستقبل ما دام الإنسان يتمتع باليقظة والنشاط الفكري، بل يتهدد فقط الذاكرة الفكرية التي ترفض الإبداع و تكتفي بالأفكار المسبقة الصنع.

تعليقات
إرسال تعليق