الصين ام الأرقام

 
صورة سور الصين عليها أرقام بما يمثل أن الصين أم الأرقام

الصين الدولة الاقتصادية و التكنولوجية العظمى، ارتبط ذكرها تاريخيا بالتنين، أما في بداياتها الحديثة فقد ارتبط اسمها في الذاكرة الاستهلاكية البشرية عموما و العربية خصوصا بالبضاعة التي (لا ترد ولا تستبدل)، على المبدأ الذي يتبعه باعة (سوق الجمعة) في بيروت حيث تباع البضائع بأبخس الأثمان بعد أن هرمت و خضعت لكل عمليات التجميل و التصليح و الصيانة عبر سنوات عمرها فوصلت حالتها الى مرحلة (ميؤوس منها) فيقول لك التاجر (ابيعك القطعة بشرط كب ع البحر، لما تمشي لا بعرفك ولا بتعرفني) بمعنى ان البضاعة لم تعد صالحة لما صنعت من أجله و ربما تضطر لرميها في البحر وهي لا ترد ولا تستبدل، وهكذا كان مبدأ الصناعة والتجارة في الصين، مع فارق فتوة المنتج و رونق التغليف المتقن، تفتنك الآلة بجمال تصميمها و تغليفها و حداثة سنها، وما أن تدفع ثمنها و تغادر المتجر حتى ينطبق عليك مبدأ (لا يعرفك ني هاو هي ولا تعرفه)، وما هي إلا ساعات حتى تدرك أنك قد غرر بك و ان الجمال جمال المحرك و التوصيلات و ليس المظهر و التغليف، و أن آلتك الحسناء في وضع تقني حرج ما بين الإيقاف المؤقت و التوقف الأبدي وهو ما يطلق عليه (لا حياة لمن تنادي) أو ( 石沉大海 (shí chén dà hǎi).

 ارتكزت الصناعة الصينية في تلك الفترة على التقليد لا الابتكار متماشية مع مقولة (اللي تعرفه احسن من اللي تتعرف عليه) لتتحول اليوم من تقليد المنتجات المصنعة مسبقا (اللي تعرفه) إلى ابتكار منتجات جديدة ( اللي تتعرف عليه) وشكلت الصين مركزا عالميا للاختراعات والابتكارات. 

 في سياستها العامة اتبعت الصين استراتيجية (اقطع ايدك و اشحد عليها) من خلال التواضع السياسي و فقر الحال لسنوات طويلة، ثم تحولت بفضل سياستها الصناعية و التجارية، من دولة فقيرة مقطوعة اليد تتلقى المساعدات إلى أقوى قوة اقتصادية، يكاد ينها ينتزع هيبة الدولار ويجعله عارا بعد وقار.

هذا التحول من التقليد إلى الابتكار لم يأتِ من فراغ، بل هو وليد استراتيجية اقتصادية تشكل سلسلة نجاحات كبرى، و تعتبر نموذجا عالميا يحتذى به، و بعد سيطرتها على (الأرقام) تعمل الصين اليوم للسيطرة على (الرقمية) من خلال الاستثمارات الضخمة في الذكاء الاصطناعي (AI)، منهية عهد (بضاعة سوق الجمعة) فالصين اليوم تبني نفسها مرة أخرى على قاعدة (الريادة لمن يبتكر الخوارزمية، لا لمن يقلد المنتج).

استراتيجية الصين الطموحة في الذكاء الاصطناعي (رؤية 2030)

تتبنى الصين رؤية استراتيجية طموحة تهدف إلى جعلها قوة عالمية رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. وتستند هذه الرؤية إلى وثيقة رسمية صدرت عام 2017 تحت عنوان (خطة تطوير الذكاء الاصطناعي للجيل الجديد)، والتي تضع خريطة طريق متكاملة لتسريع الابتكار، وتعزيز الاستقلال التقني، وتوظيف الذكاء الاصطناعي كمحرك للنمو الاقتصادي والاجتماعي.

إقرأ أيضا: صراع المفترسات الرقمية

 الرؤية والسياسة العامة

تسعى الخطة الصينية إلى تحقيق ثلاث مراحل رئيسية:

1. بحلول عام 2020: مواكبة الدول المتقدمة في التطبيقات الرئيسية للذكاء الاصطناعي.

2. بحلول عام 2025: تحقيق اختراقات مهمة في البحث والتطوير، ودمج الذكاء الاصطناعي في القطاعات الإنتاجية الحيوية.

3. بحلول عام 2030: أن تصبح الصين المركز العالمي الأول للابتكار في الذكاء الاصطناعي من حيث البنية التحتية، والبحوث، والتطبيقات الصناعية.

تتميز الاستراتيجية الصينية بطابع حكومي مركزي ممنهج، إذ تعتبر الدولة هي المحرك الرئيس لتطوير القطاع، بخلاف النموذج الغربي الذي يعتمد بدرجة أكبر على القطاع الخاص.

حجم الاستثمارات والتمويل

تضخ الحكومة الصينية استثمارات ضخمة في أبحاث وتطوير الذكاء الاصطناعي، في إطار ما يمكن وصفه بالنهج الوطني الشامل.

ووفقاً لتقديرات بنك أوف أمريكا، من المتوقع أن يتراوح الإنفاق الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي في الصين بين 84 و98 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2025.

هذا التمويل لا يقتصر على البحث العلمي، بل يشمل بناء مراكز بيانات عملاقة، وتحديث البنية التحتية الرقمية، ودعم الشركات الناشئة العاملة في هذا المجال، على عكس النموذج الأمريكي، تلعب الحكومة الصينية دوراً قيادياً في التمويل والتخطيط، مع مشاركة فعالة من الشركات الوطنية الكبرى مثل علي بابا وتينسنت وبايدو وهواوي، في تنفيذ الخطط وتطوير الحلول التقنية.

 أبرز مجالات التقدم والإنجاز

1. نماذج اللغة الكبيرة (LLMs)

شهدت الصين تقدما ملحوظا في هذا المجال. فقد طورت شركاتها نماذج لغوية قادرة على المعالجة الطبيعية للغة الصينية والإنجليزية، من أبرزها:

نموذج Hunyuan: من شركة تينسنت، والموجه للاستخدام المؤسسي.

نموذج DeepSeek: الذي جذب اهتماماً عالمياً بعد أن أظهر كفاءة عالية في التكلفة والأداء ضمن بعض المهام المتخصصة.

نموذج Qwen-2.5-Max: من علي بابا، الذي يقترب أداؤه من النماذج العالمية المنافسة في بعض الاختبارات.

ورغم هذا التقدم، لا توجد أدلة قاطعة على تفوق شامل للنماذج الصينية على نظيراتها الغربية مثل ChatGPT أو Gemini، بل يمكن القول إن الفجوة تضيق تدريجيا مع استمرار التحسينات المحلية.

2. البيانات وتقنيات التعرف على الوجوه

تملك الصين ميزة تنافسية فريدة بفضل حجم بياناتها الضخم الناتج عن أكثر من مليار مستخدم، ما يوفر قاعدة بيانات هائلة لتدريب النماذج الذكية، وقد أصبحت الصين من أبرز الدول في تطوير تقنيات التعرف على الوجوه والمراقبة الذكية، رغم استمرار الجدل الدولي حول الجوانب الأخلاقية والخصوصية في هذا المجال.

3. التطبيقات الصناعية الواسعة

تمتد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصين إلى مجالات متعددة، من أبرزها:

السيارات ذاتية القيادة: بدعم حكومي واسع، أطلقت شركة بايدو خدمات تجريبية لسيارات الأجرة الذاتية في مدن مثل بكين وووهان.

التحول الصناعي والزراعي: يجري تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الإنتاج في مجالات الصناعة، والزراعة، والطاقة، والتعليم، والطب.

المدن الذكية: تعد الصين من أكثر الدول استثمارا في مشاريع المدن الذكية القائمة على أنظمة المراقبة والتحليل التنبؤي.


الذكاء الاصطناعي في الصين


 التحديات وآفاق المستقبل

تسعى الصين إلى تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأجنبية، خصوصاً في مجال الرقائق وأشباه الموصلات، نتيجة للقيود الجيوسياسية والعقوبات الأمريكية، ورغم تحقيق تقدم ملموس في تطوير بدائل محلية، فإن الاستقلال التكنولوجي الكامل ما يزال هدفاً طويل المدى بسبب صعوبة تصنيع الشرائح عالية الأداء محليا. ومع ذلك، تواصل الصين المضي في نهج حكومي موجه طويل الأمد يجمع بين الاستثمار الضخم في البنية التحتية الرقمية، ودعم المواهب الهندسية، وتطوير الصناعات الذكية.

ورغم أن بعض الأهداف المعلنة، مثل التفوق الكامل على النماذج الغربية أو تحقيق الاكتفاء الذاتي في الرقائق، ما تزال في طور التحدي، إلا أن الصين تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ مكانتها كقوة رئيسية في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030.



تعليقات

المشاركات الشائعة